تعتبر اتفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل خطوة تاريخية، بكل المقاييس، وقد تكون بالفعل بداية لمستقبل مختلف تماماً للشرق الأوسط، حيث أن التجارب والتحديات التي واجهتها المنطقة طوال السبعة عقود الماضية، قد أثبتت أن تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل أصبح أمر حتمي من أجل تحقيق السلام والاستقرار في هذه المنطقة دائمة الغليان، كما أن كل خطوة باتجاه تحقيق السلام تقوض مساعي التنظيمات الإرهابية التي تنشر الخراب والدمار، ليل نهار، في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تحت شعارات "تحرير القدس" و"القضاء على إسرائيل."
إلا أنه ولكي يتحقق السلام بالفعل، فإن الاتفاقيات التي توقعها الدول فيما بينها، مثل تلك التي وقعتها الإمارات مع إسرائيل، مؤخراً، ليست كافية في حد ذاتها، هي فقط بمثابة حجر أساس أو بداية لمشوار طويل وجهد كبير يجب أن يبذل من أجل إشراك الشعوب العربية في عملية السلام وتشجيعهم على تبني مفاهيم جديدة بشأن العلاقات العربية الإسرائيلية، مفاهيم مغايرة تماماً لما تم برمجة عقولهم عليه، لعقود طويلة، عبر وسائل الإعلام وخطابات السياسيين، من نوعية أن إسرائيل هي "العدو الأعظم"، وأن أي علاقة دبلوماسية معها فيه "خيانة" للقضية الفلسطينية، بل والأمتين العربية والإسلامية، لدرجة أن المثقفين قبل عامة الشعب، في كافة أرجاء الدول العربية، أصبحوا يقيّمون الأشخاص وفق موقفهم الشخصي بشأن التطبيع مع إسرائيل، بل ووصل الأمر لحد مزايدة بعضهم على بعض، ووصم المؤيدين لأي مبادرة سلام مع إسرائيل باتهامات بشعة مثل الخيانة.
وعلى سبيل المثال، فإنه في الوقت الذي قامت دولة الإمارات بأخذ هذه الخطوة الشجاعة نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أظهر استطلاع حديث أجراه "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، في شهر يونيو، أن ٢٠٪ فقط من الإماراتيين يوافقون على سياسة الدولة بشأن إقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل. والحقيقة، أن هذه النسبة الضخمة من الرافضين للتطبيع في الإمارات متشابهة كثيراً مع موقف غالبية المواطنين العرب، على اختلاف دولهم ودرجة تأثرها وتأثيرها في إسرائيل والقضية الفلسطينية، بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في البلدان التي وقعت معاهدات سلام مع إسرائيل منذ زمن بعيد، مثل مصر.
فليست الإمارات هي الدولة العربية الأولى أو الوحيدة التي تتخذ مثل هذه الخطوة التاريخية نحو إرساء السلام والاستقرار في المنطقة، بل كانت مصر أول دولة عربية توقع معاهدة سلام مع إسرائيل في عام ١٩٧٩، ونصت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل على التطبيع الكامل في العلاقات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية بين البلدين. ثم، في عام ١٩٩٤، أبرمتا كل من الأردن وإسرائيل اتفاق بشأن إقامة علاقات دبلوماسية منتظمة بين البلدين. وفي العام نفسه، بدأت إسرائيل تطبيع علاقاتها الدبلوماسية مع تونس والمغرب وموريتانيا. وفي عام ١٩٩٦، وقعت سلطنة عمان، التي كانت لديها بالفعل علاقات جيدة مع المسؤولين الإسرائيليين في حكومة إسحاق رابين، اتفاقية مع إسرائيل بشأن فتح مكاتب تمثيل تجاري ودبلوماسي لدى عواصم البلدين، ولكن، في عام ٢٠٠٠، انسحبت عمان من الاتفاقية بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
حظيت جميع الاتفاقيات التاريخية، المذكورة أعلاه، بين الدول العربية وإسرائيل بترحيب دولي واهتمام كبير من قبل وسائل الإعلام الدولية وقت إعلانها، وكذلك ثار حولها الكثير من الجدل حول شرعيتها ودوافعها بين المراقبين العرب ووسائل الإعلام المحلية، ولكن سرعان ما فقدت هذه الاتفاقيات بريقها ونسيها الناس فوق الرف المغبّر مع مرور السنين، بينما عادت الأصوات المعادية لفكرة السلام مع إسرائيل، من شخصيات إعلامية وسياسيين وإسلاميين، للضجيج مرة أخرى، وتعرض مؤيدو السلام مع إسرائيل لحملات تشويه تصم فعلتهم بالعار وأحياناً بالخيانة العظمى.
على مدى عقود، وقع الرأي العام العربي ضحية لغسيل دماغ ممنهج من قبل أصحاب الخطاب المعادي للسامية في دوائر الإعلام والسياسة، وهم الذين يصورون إسرائيل على أنها العدو الرئيسي للعالم العربي بأسره والأمة الإسلامية بأسرها، وأذكر أنه قبل ثورات الربيع العربي، استخدمت الأنظمة الديكتاتورية العربية على هذا الخطاب المعادي، وتأجيج المشاعر الشعبية بشأن القضية الفلسطينية، من أجل صرف انتباه الناس عن الاحتجاج على فشل النظام السياسي والفساد الاقتصادي، في داخل دولهم.
وحتى اليوم، تعتمد جماعات الإسلام السياسي، مثل جماعة الإخوان المسلمين وحزب الله، وكافة التنظيمات الإرهابية المنبثقة منهما، على استخدام الخطاب المعادي لإسرائيل والمعادي لليهود بشكل عام في جذب المؤيدين وتحدي الأنظمة العلمانية التي تأسست حديثاً في المنطقة، في أعقاب ثورات الربيع العربي، على خلفية تعاون هذه الأنظمة أو إقامتها علاقات دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل.
ولعل الرئيس التركي أردوغان، هو أبرز مثال على كيف يقوم السياسيون باستغلال القضية الفلسطينية والخطاب العدائي ضد إسرائيل في خلق بطولات زائفة لأنفسهم وتشتيت شعوبهم عن الفشل والفساد الذي يمارسونه في الداخل. فقد كان أردوغان، الذي تنهار بلاده من الداخل بسبب فشل نظامه السياسي والاقتصادي، وكذلك حلفاؤه في قطر، هم أول من سارع بإدانة الإمارات لعقدها اتفاق سلام مع إسرائيل، لدرجة أن تركيا اتهمت القيادة السياسية في الإمارات بخيانة الفلسطينيين، وتعهد أردوغان بقطع العلاقات الدبلوماسية وسحب سفيره؛ ليس السفير التركي في تل أبيب، ولكن السفير التركي في أبو ظبي! ومن المفارقات أن الحكام في كل من قطر وتركيا الذين يدّعون طوال الوقت أمام شعوبهم أنهم يكرهون إسرائيل بشدة، هم في الحقيقة في حالة سعي دائم لإقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية وسياسية قوية مع إسرائيل.
لهذا كله، فإنه لإنجاح الاتفاقية المبرمة بين الإمارات وإسرائيل، ومثيلاتها من الاتفاقيات السابقة، وتشجيع المزيد من الدول العربية على الانضمام إلى قطار السلام، يجب بذل جهد كبير على الأرض، بين المواطنين، على مستوى القاعدة الشعبية، في الدول العربية. يجب توعية المواطنين بشكل صحيح حول أهمية اتفاقيات السلام، وأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو الاستراتيجية المثالية لحل القضية الفلسطينية ومواجهة تأثير تيارات الإسلام السياسي والتنظيمات الإرهابية التابعة لهم، وأيضاً لصد نفوذ الدول التي تقوم برعاية وتمويل الإرهاب في الشرق الأوسط.