عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لقاء قمة مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في مدينة شرم الشيخ، جنوب سيناء، الأسبوع الماضي، أثناء مشاركة الرئيس عباس في فاعليات افتتاح منتدى شباب العالم الذي يعقد في نفس المدينة، وهو تقليد ثابت لسيادته منذ النسخة الأولى من المنتدى قبل ثلاثة أعوام.
وتستمد القمة المصرية الفلسطينية بين السيسي وعباس أهميتها، ليس فقط من كونها تعيد ضبط ميزان العلاقات المصرية الفلسطينية في إطارها الصحيح، بعد الزيارة المخيبة للآمال للتنظيمات الإرهابية حماس والجهاد إلى مصر، مطلع ديسمبر، ولكن أيضاً تأتي أهمية هذه القمة من حقيقة كونها تسبق انتخابات فلسطينية عامة متوقع إجراؤها في الأشهر الأولى من العام الجديد، والتي حتماً ستؤثر نتائجها على أمور تتعلق بالأمن القومي المصري، نظراً للتقارب الجغرافي والوضع الأمني المضطرب في سيناء، والعلاقات السياسية والأمنية بين مصر وإسرائيل، وأيضاً وفي مقدمة كل ذلك المسؤولية التاريخية لمصر تجاه فلسطين.
هذه المسؤولية التي دفعت جهاز المخابرات المصري للقاء وفود من حركتي حماس والجهاد، المصنفيتين دولياً كتنظيمات إرهابية، مطلع ديسمبر، لمناقشة أمور تتعلق بالحالة الأمنية داخل غزة والهدنة العسكرية مع إسرائيل، في مشهد وجدته – عن نفسي – مزعجاً إلى أقصى حد، انتهى بخروج قادة حماس ببيان إعلامي، فور مغادرتهم لمصر في طريقهم إلى تركيا، يسردون فيه ما حدث في الاجتماعات مع الجانب المصري على أنه تباحث في العلاقات بين مصر وفلسطين، في لهجة توحي بأنهم يمثلون السلطة الفلسطينية والمتحدثين باسم الشعب، ثم ذيلوا البيان بشكر الدول العربية التي تدعم شعب غزة وفي مقدمتهم ”دولة قطر“ في تصرف يفتقر لأبسط قواعد اللياقة، مع علمهم التام بالعلاقات المضطربة بين مصر وقطر، مما بدا وكأنه استهتار من حركة حماس تجاه مصر يتوازى مع حرص على استرضاء قطر الممول الأكبر لكل أنشطتهم الإرهابية ضد الدول العربية التي تناصبها قطر العداء.
وليس هذه هي المرة الأولى التي تمد فيها مصر يد العون لحماس وتمكر بها حماس، نذكر مثلاً أن حماس كانت هي القوة الخارجية الوحيدة التي تسللت إلى داخل مصر بغرض المساعدة في نشر الفوضى أثناء وعقب ثورة يناير عام ٢٠١١، لخدمة الجماعة الأم للتنظيم، وهي جماعة الإخوان المسلمين، إسرائيل نفسها لم تفكر مجرد التفكير في استغلال ضعف مصر عقب سقوط مبارك لتقوم بأي عمل معادي، بل على العكس من فعل ذلك كان حماس، ولم يمر وقت طويل قبل أن تقوم الحركة بزرع ميليشيات إرهابية داخل سيناء مستغلة وجود جماعة الإخوان المسلمين في حكم مصر عام ٢٠١٢، على أمل ووعد من جماعة الإخوان بفتح الحدود بين غزة وسيناء وانتقال الفلسطينين للعيش فيها دون شرط أو قيد، وما أن قامت الثورة الثانية التي أسقطت جماعة الإخوان المسلمين في منتصف عام ٢٠١٣، إلا وتحولت سيناء إلى جحيم على يد حركة حماس والميليشيات الإرهابية التي زرعتها هناك، والتي تحولت بعد ذلك في العام ٢٠١٥، بعد أن أغرقت مصر الانفاق بين سيناء وغزة، إلى تنظيم إرهابي موحد قام بمبايعة داعش وأخذ يعيث فساداً في سيناء، وقد سالت على يديه دماء شباب مصري طاهر من مدنيين وعسكريين على مدار السنوات الخمس الماضية.
والحقيقة أن حركة حماس، لم تكن مصدر إيذاء للدول المجاورة لقطاع غزة فقط، وفي مقدمتها مصر، بل كانت نكبة على الشعب الفلسطيني نفسه، تخيل مثلاً أن ركوب تنظيم حماس الإرهابي على الانتفاضة الأولى للشعب الفلسطيني، في الثمانينات، كانت سبب في ضياع القضية الفلسطينية وهي السبب الحقيقي في تعثر أي مفاوضات للسلام حتى اليوم، لقد كانت الانتفاضة الأولى مثال يحتذى به في الثورة السلمية الشعبية، التي أبهرت العالم وأجبرت الجميع على الاستماع لصوت الشعب الفلسطيني والجلوس على مائدة المفاوضات معه، لكن بقدرة قادر قفزت عليها حماس واختطفتها وقدمت نفسها على أنها صانعها، ثم حولتها إلى حالة من الفوضى والعنف أفقد الصوت الفلسطيني قوته وشرعيته.
وتسبب قفز حماس، بمساعدة قطرية، على آخر انتخابات شهدتها فلسطين قبل أربعة عشر عاماً، في حالة من الاستقطاب السياسي الفج الذي ترتب عليه عدة انقسامات داخل الطبقة السياسية، ضاعفت من معاناة الشعب الفلسطيني الذي يقف أغلبه صامتاً مستسلماً للأمر الواقع، الذي فرض عليه أن يختار إما حماس وإما فتح.
فبعد إعلان القاهرة في ربيع ٢٠٠٥ والذي أنهى قرابة العقد من الصراعات والمكايدات السياسية بين حماس وفتح، عقدت الانتخابات الرئاسية والتشريعية في كل من قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وكانت النتيجة أن فازت حماس، التي دعمتها قطر بكامل خزائنها، بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وبالتالي قامت حركة حماس، المصنفة تنظيماً إرهابياً بتشكيل الحكومة، واحتفظت حركة فتح برئاسة السلطة الفلسطينية من الضفة.
ومنذ ذلك الحين، تواصل وتصاعد الصراع بين فتح وحماس لدرجة استوجبت القطيعة بين الفصيلين ونتج عنها انعزال الضفة عن غزة، وهو الأمر الذي كان مزعجاً ومربكاً للسلطة الفلسطينية، بقدر ما كان مريحاً ومبهجاً لحركة حماس التي فرضت سيطرتها الكاملة على القطاع، لتمارس القمع ضد الشعب الفلسطيني، دون حسيب أو رقيب، مخرسة أي صوت فلسطيني معارض لها إما بالقتل أو السجن أو التعذيب.
وهذا ما يجعلنا نسأل: ماذا لو فازت حماس بالانتخابات الرئاسية والتشريعية المرتقب عقدها في فلسطين، خلال الأشهر الأولى من العام القادم؟ هذا مع الأخذ في الاعتبار بأن القدس الشرقية لم تعد على خارطة الانتخابات الفلسطينية أصلاً، مما سيضعف من موقف فتح لصالح حماس، فضلاً على الانقسامات الداخلية في فتح، والتي تصب أيضاً في مصلحة حماس الانتخابية.
لو حدث أن تولت حماس الرئاسة وغالبية المجلس التشريعي، عبر الانتخابات القادمة، وقتها ستستأثر بمقاليد الحكم كاملة، وسيكون لها الكلمة الأولى والأخيرة على البلاد والعباد، في هذه الحالة ستكون القضية الفلسطينية وفكرة إبرام أي سلام مع إسرائيل مسألة شبه مستحيلة، ناهيك طبعاً عن القمع والتنكيل بالمواطنين الفلسطنيين الذين ينتمون للفصائل السياسية الأخرى ولا يعلنون الولاء والطاعة لحماس، أو أولئك الذين يبدون أي قدر من المعارضة لسياستها أو منهجها العنيف والمتشدد دينياً وسياسياً، وقد شهدنا مثال مصغر من هذا القمع الحمساوي ضد المعارضين من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بالفعل، الذي ضج الناس فيه من الفقر والقمع، طيلة السنوات الماضية.
وأسئلة أخرى تنبثق من تمكين حماس المحتمل، لا قدر الله: هل ستتعامل الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا مع حركة حماس، إذا ما استحوذت على كامل أروقة الحكم في فلسطين، رغم تصنيفهم لها كمنظمة إرهابية دولية؟ كيف ستكون العلاقة بين حماس ومصر، التي انكوت بنيران مليشياتها في سيناء؟ كيف ستتعامل دول عربية مثل السعودية مع حماس بوصفها رأس السلطة في فلسطين، لا قدر الله، بينما حماس هي حليف سياسي وعسكري أصيل لكل من قطر وإيران؟
إن من يعتقد أن الممارسة الديمقراطية متمثلة في الانتخابات من شأنه أن يعالج الانقسام الواقع في الداخل الفلسطيني، مخطيء تماماً، بل على العكس، الديمقراطية التي تطبق في مناخ سياسي واجتماعي غير ملائم تزيد من مشكلات المجتمع الذي تطبق فيه، وتعزز الانقسامات والصراعات بين فصائل الطبقة السياسية، خصوصاً لو كانت إحداها لا يؤمن بالديمقراطية أصلاً ولا بقيمها الليبرالية حتى، ولا يدفع ثمن ذلك إلا الشعوب، والشعب الفلسطيني فيه ما يكفيه ولا يحتمل مزيد من الهموم بسبب صراعات سياسية تتخبى وراء قناع الديمقراطية، وليست دول الربيع العربي أو الدول الأفريقية، التي تصدعت وأنهارت تحت راية الممارسة الديمقراطية ”المستعجلة“ وغير المحسوبة ببعيد.
لو أن النخبة السياسية في فلسطين حريصة حقاً على تغيير وجه الحياة السياسية في البلاد، فعليهم أولاً توفير المناخ الملائم للممارسة الديمقراطية، من حيث الخروج من حالة الاستقطاب التي تكرس لها ثنائية فتح وحماس، وإتاحة المجال لفصائل أخرى لعرض نفسها، فصائل ليبرالية، منفتحة على العالم، لديها احترام مناسب في الغرب، تحترم التعدد وتشجع المعارضة السياسية ولا تقمعها، تؤمن بالمقاومة السلمية والعمل غير العنيف، وجادة في سعيها لتحقيق سلام دائم مع إسرائيل، بعيداً عن الحلول الوهمية المطروحة حالياً للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن ما بقيت حماس، ومن خلفها قطر وإيران، لاعب على المسرح الفلسطيني، فلا خير يرجى ولا أي ممارسة ديمقراطية ستنجح في حل أي شيء.