هذا هو المقال الثاني في سلسلة المقالات التي نخصصها لمناقشة التعديلات المقترحة على الدستور المصري، وقد تناولت في مقالي السابق تباين ردود الأفعال بين المواطنين على طرح البرلمان المصري لفكرة تعديل الدستور بين معارض على الإطلاق ومؤيد بشكل كامل ومترقب بحذر، والطريف أن مواقف المواطنين المتباينة حول الدستور تتمحور بشكل أساسي حول موقفهم من الرئيس السيسي أكثر مما تتعلق بالدستور نفسه أو التعديلات المقترحة عليه.
في هذا المقال سوف أتناول شرعية فكرة تعديل الدستور في حد ذاتها، وإلى أي مدى قد تؤدي عملية تعديل الدستور إلى دعم التطور الديمقراطي في مصر، ولن أفعل مثلما فعل غيري وأكرر عليكم أسماء دول في أوروبا قامت بتعديل دستورها عشرات المرات على مدار تاريخها، ولن أتحدث عن جبروت أردوغان في تركيا وتعديله للدستور لزيادة صلاحياته مقابل صلاحيات البرلمان، فأنا أرى أن المقارنة هنا ظالمة لأبعد حد، فمصر ليست دولة أوروبية، والرئيس السيسي أرفع وأسمى من أن يقارن بهذا الأردوغان.
أولاً، علينا أن نعترف بأن الدول الأوروبية التي يقارنون دستور مصر بدستورها الآن هي دول طاعنة في الديمقراطية، مستقرة أمنياً وسياسياً، وأن أغلب الدساتير الحاكمة في هذه الدول لا يحتوي إلا على عدد محدود جداً من المباديء العليا التي تنظم حالة الحقوق والحريات في هذه البلاد وتقر بالتزام النظام الحاكم بها، على عكس دستور مصر الحالي والذي يضم 247 بنداً، وهو عدد مهول، نظراً لأن اللجنة التي وضعت الدستور كانت حريصة بشكل مبالغ فيه على تناول كل تفصيلة سياسية واجتماعية وحقوقية، وقد أثبت التطبيق العملي فيما بعد أن هذا التفصيل المبالغ فيه لنصوص الدستور قد قيد عمل المشرعين في البرلمان إلى حد كبير أثناء صياغة القوانين المختلفة.
ولا يخفى على أحد أن أغلب الدول الأوروبية التي يشيرون إليها في المقارنة مع مصر، قد مرت هي الأخرى بثورات وحروب ومراحل انتقالية تشبه تلك التي مرت بها مصر بعد ثورة يناير، لكن أي من هذه الدول لم يكتب دستوره في وسط المرحلة الانتقالية مثلما فعلنا نحن على عجلة من أمرنا، بل إن هذه الدول استغرقت عشرات السنوات لتستقر في الشكل الديمقراطي التي نراها عليه الآن، الولايات المتحدة الأمريكية، رائدة المذهب الديمقراطي الليبرالي في العالم، غاصت ما يقرب من المائة عام في حروب أهلية ضارية قبل أن تستقر في النهاية على كتابة دستور وبناء دولتها الديمقراطية الليبرالية المستقرة التي نراها اليوم.
كما أن المدقق في السياسة الداخلية لكل دولة من هذه الدول، ويتابع تفاصيل توزيع نظام الحكم بين مؤسساتها وطرق تداول السلطة وحاكمية الدستور في كل منها، سيكتشف أن لكل منها نظامها الخاص، ولم تتفق جميعها على شكل واحد أمثل لإدارة الحياة السياسية فيها بطريقة "مقاس واحد يناسب الجميع"، فنجد أن بعض هذه الدول يطب النظام الرئاسي في إدارة شئون الحكم، بينما بعضها يعتمد على النظام البرلماني، وبعضها الآخر تحكمها هيئة استشارية، وبعضها ما زال يحتفظ بالنظام الملكي مع إعطاء صلاحيات أوسع لرئيس الوزراء، إلى أخره.
أي أن كل دولة من الدول الديمقراطية الليبرالية في العالم اليوم، قد صمم نظامه السياسي الخاص على مدار سنوات من الإخفاق والإصلاح، حتى استقروا في النهاية على شكل لنظام الحكم يضمن تحقيق المناخ السياسي الملائم للمواطنين لممارسة حقوقهم المدنية والسياسية في إطار حياة آدمية كريمة، وهذا بالضبط هو ما نسميه الديمقراطية الليبرالية، أي الديمقراطية التي تتجاوز حدود صندوق الانتخابات، ولا تأخذه معياراً على التقدم السياسي أو الاجتماعي، بل تهتم أساساً بتوفير الحقوق والحريات للمواطنين بغض النظر عن النظام السياسي الذي تختاره الدولة وفقاً لإرثها الثقافي والتاريخي وتعقيداتها الاجتماعية والسياسية.
ومن أبرز ملامح الدولة الديمقراطية الليبرالية في إطار هذا التعريف، أن تكون لها ثلاثة أركان، أولها دستور حاكم يمثل السيادة المطلقة للقانون على الجميع، وثانيها مؤسسات فاعلة ذات أدوار متكاملة لا متداخلة، وثالثها مجتمع مدني قوي بشقيه الخيري والحقوقي، ويكون دور الدستور هو إقرار المباديء العليا التي تضمن الحقوق والحريات ويكون بمثابة المرجع الذي يعود إليه كل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والمواطن العادي في إدارة تفاصيل التفاعلات السياسية والاجتماعية فيما بينهم.
ولكي يتمكن جميع الأطراف من الالتزام بمبادئ الدستور والاحتكام إليه، يجب أن يتمتع هذا الحاكم الأعلى – أي الدستور – بدرجة من المرونة تيسر على الجميع الاحتكام إلى مبادئه والالتزام بها والسعي لتنفيذها، ومن ملامح هذه المرونة أن يسهل تعديل الدستور وفقاً لتغير الظروف السياسية في البلاد بما يضمن مزيد من الحقوق والحريات والتطور باتجاه الدولة الديمقراطية.
ومن ملامح المرونة أيضاً عدم تناول الدستور لأدق أدق التفاصيل واعتماده على المبادئ العليا في ضمان الحقوق والحريات وشكل الدولة، ومن ملامح المرونة أيضاً أن لا يضم الدستور نصاً كتلك المادة الموجودة في دستورنا الحالي (مادة 226) التي تحرم إجراء أي تعديل على الدستور، حيث أن هذا الجمود في حد ذاته هو ضد مبدأ الدولة الديمقراطية أصلاً، فالممارسة الديمقراطية متغير دائم، السياسة نفسها متغير دائم، ولا يمكن إدارة مناخ سياسي سليم تحت دستور عصي على التعديل أو التكيف مع المتغيرات.
ومن ملامح المرونة أيضاً عدم تناول الدستور لأدق أدق التفاصيل واعتماده على المبادئ العليا في ضمان الحقوق والحريات وشكل الدولة، ومن ملامح المرونة أيضاً أن لا يضم الدستور نصاً كتلك المادة الموجودة في دستورنا الحالي (مادة 226) التي تحرم إجراء أي تعديل على الدستور، حيث أن هذا الجمود في حد ذاته هو ضد مبدأ الدولة الديمقراطية أصلاً، فالممارسة الديمقراطية متغير دائم، السياسة نفسها متغير دائم، ولا يمكن إدارة مناخ سياسي سليم تحت دستور عصي على التعديل أو التكيف مع المتغيرات.
نحن في مصر، ما زلنا نرسم ملامح النظام السياسي الأكثر ملائمة لطبيعة وتاريخ وتعقيدات الدولة المصرية، ومن بين ذلك قد نضطر للدخول في إجراءات مثل عمل تعديلات دستورية من وقت لأخر حتى نصل لحالة الاستقرار السياسي النهائي التي وصلت لها دول أخرى، فعملية بناء دولة ديمقراطية هي عملية متواصلة ومستمرة ولن تنقضي بين يوم وليلة أو بمجرد كتابة نص دستوري أو إجراء انتخابات بين حين وأخر، كل هذه مجرد خطوات صغيرة في اتجاه الهدف الأسمى وهو أن تكون مصر وطن يتمتع فيه المواطن بحقوقه وحرياته.
ولنا في مسألة التعديلات الدستورية مقالات أخرى سيتم نشرها تباعاً في الأسابيع القادمة إن شاء الله.