وصلتني هذه الرسالة من الأستاذ عبد الرحيم طايع يقدم فيها نقدا لقصيدتي "لما المطر بطل ينقط" و قد سمح لي مشكورا بنشره هنا، فاحببت أن تشاركوني بإبداء رأيكم في النقد و في القصيدة أيضا:
عن البراءة المفقودة والقسوة الموجودة
( أفكار جديدة تزيح أفكارا قديمة )
قراءة في قصيدة " لمّا المطر بطّل ينقّط " لـ داليا زيادة
لاأذكر الآن عن ماذا كنت أبحث في صفحات " الإنترنت " عندما وجدت نفسي أمام مدونة " داليا زيادة " التي لم أكن اطلعت عليها من قبل . وجه
" داليا " الودود المرحّب جعلني أمكث هناك وقتا ليس قليلا ؛ وتجولت بالمدونة التي راقتني فيما يبدو لاسيما وهي تحوي بعض ماأحبه كأغنية " فريد الأطرش " بانادي عليك التي لاأعرف هل وضعتها "داليا " لمجرد أنها تحبها ، أم أنها تنادي أحدا تعرفه فعلا أو تنتظره ؛ وماالأغنية إلا إشارة منها إليه !
الشعر - لكوني شاعرا أولا وقارئا متذوقا ثانيا ومحبا للجمال بصوره كلها قبل أي شيئ وهو في المقدمة منها - أول مايلفت نظري دائما في المواقع التي أدخلها باحثا عما يمنحني بقاء مطمئنا !
القصيدة عنوانها " لمّا المطر بطّل ينقّط " وهو العنوان الذي يحيل مباشرة إلى غياب العون ؛ فالمطر - الذي له فرحة وطقوس ترحاب - دائما هو المدد ؛ وفي الأغاني الشعبية المصرية : " مطّري يامطرة .. خلّي القمح بعشرة ! " ، ..
ومن ذلك فدلالة امتناعه " بطّل " بيِّنة المعنى ( امتناع المطر / انقطاع المدد ) .
لمّا المطر بطّل ينقّط
فوق سطوح بيتنا القديم
البيت القديم الذي امتنع المطر عن نزول سطحه يمثل سذاجة التجربة الأولى
( البيت القديم / التجربة الأولى ) والمعنى ربما أن الرعاية والإلهام
( أيًّا مايكونان معنىً أو مبنىً ) تركا الإنسان المعاصر ممثلا في الشاعرة بالعراء !
يحدث تحوُّل الذات الإنسانية بناء على ذلك :
حاجات كتير بطّلتها
بطّلت فوق الحيط أشخبط
بلون سحابة شايلة غيم
ولون قمر يشبه لها
بطّلت م الكسوف أتلخبط
لمّا ألاقي واد وسيم
يغمز لصاحبه بحبها
..................
التحرك داخل الحياة - بغياب العامل الخارجي المساعد - يكون بالطاقة الداخلية الذاتية ؛ حيث يتخلص الإنسان ( الوحيد المأزوم ) من تواكله تدريجيا ؛ ويواجه الحياة القاسية - كما لاننفك نقول - بصدره !
بل يمعن في الاعتماد على النفس ؛ فينظف حائطه ( الحائط / العقل ) مما كان عالقا به من رؤى وتصورات قديمة !
مفردات كـ " اشخبط .. اتلخبط .. الكسوف " لها دلالة الطفولية
ومفردتا " السحابة والقمر " لهما دلالة الذكورة والأنوثة
والسحابة والقمر ( في شكليهما الأول المتخيَّل ) موصوفان بالامتلاء وليسا فارغَيْن ؛ والظاهر أنه امتلاء مقصود به القدرة على العطاء
( العطاء / القيم الإيجابية ) ؛ فالسحابة تحمل ماءً ( الماء / الحياة ) والقمر
شبيهها ؛ أي كأنه عامر بالضياء .
إنهما ذكورة وأنوثة ملائكيتان غاية في الغِنَى والاكتمال ؛ فهل هذه حقًّا هي حقيقة الإنسان ؟ أم أنه التوهُّم الأوليُّ الزائف للحقيقة الإنسانية ؟
" داليا " أو الأنثى التي تمتلك مشاعرا كالأطفال أو كانت كذلك أقلعت فعليًّا
( لاحظوا الحديث بصيغة الفعل الماضي ) عن عاداتها الأولى " بطّلت " في تعاملها ( الجرئ ) مع الأولاد الذين لايترددون - وقد كفّت عن رسمهم في صورة جميلة كما كفت عن رسم نفسها في نفس الصورة أيضا ! - في إظهار مشاعرهم بطرقهم الخاصة التي لاتخلو من الأساليب ( الوقحة ) المكتسبة من الشارع
" يغمز لصاحبه بحبها " .
وتستمر في إزاحة الغطاء الثقيل عنها أو رفع الوصاية من أجل المعرفة :
فتحت فتحة صغيرة
وخرجت منها
خرجت أتعلم حاجات
ماكنتش أعرفها ساعتها
.....................
إن لفظي الفتح والخروج - وقد وفِّقَت في استخدامهما داليا - " فتحت ، خرجت " لفظان مألوفان حميمان في ذاكرتنا اللغوية ربما لاتصالهما بالأدبيات المقدسة خصوصا القرآن الكريم ، وغالبا مايؤديان إلى نتيجة إيجابية تمثلت
- بالنص الذي نحن إزاءه - في حصول المعرفة التي لم تكن من قبل .
ضمن المعرفة الحاصلة تظهر السلبيات المتصلة بالإنسان - منفردا - في صورته
الذكورية وفي الأنثوية وهما الصورتان اللتان يدور حولهما النص ويمثلان عالم الإنسان أو الوجود البشري :
عرفت مثلا إن الولاد
مش طيبين في كل وقت
وكمان عرفت إن البنات
مش كلها بتحب بعض
وعرفت إن الكون دا أصله
ولد وبنت
........................
بدأ الاعتماد على الوعي الإنساني الخالص الحر إذن - وأظنه ماتدعو الشاعرة للانطلاق منه في الحياة محاولةً للإدراك السليم والفهم - يكتشف جديدا ويولد اهتمامات كبرى " أصل الكون " ويشير - بذكاء - إلى قيمة الإنسان في نفس الوقت ؛ حيث هو - بصورتيه في اندماجهما الطبيعي معا - ولاشيئ غيره يساوي هذا الأصل ويعادله ، مع ضرورة مراعاة أن الكون من جهة اللفظ أعم وأشمل في معناه من ألفاظ كالدنيا أو الحياة حيث معنى الكون - معجميا - : الوجود المطلق العام ( !! ) ؛ يعني الإنسان ( الذكر والأنثى في اتحادهما ) هو أصل الوجود بأسره ؛ وهو نفسه مايحدث صدمة شديدة لديها ربما نتجت عن الإحساس بالمسئولية العظيمة الملقاة على عاتق الإنسان الذي بسببه كان الكون كينونته ؛ وتبرز فكرة الرجوع بناء على ذلك :
بصراحة لمّا عرفت خوفت = صدمة معرفية
وقوام على بيتنا رجعت = ارتداد للمكان الآمن
بعد العودة / الارتداد تبدأ التجربة في اكتمالها الأخير ؛ حيث ينزل المطر / المدد
للمحو ( المحو / تثبيت شيئ مختلف وفق وعي جديد لمن يتلقى المساعدة ) وبنقطة
واحدة من نقاطه ( نقطة واحدة / قوة كبيرة ) ؛ وكأن المدد الأصلي ( قيم زمن نقص الخبرة الناشئة عن تصورات رومانسية منفصلة عن الواقع ) تغير بتغير الذات الإنسانية التي دخلت التجربة بمنأى عنه اعتمادا على حركة نفسها بل استمد هو منها قوة بعد أن كان من يمددها بالقوة ، ولم يصر أمامه - إذ أمعنت في تجربتها - إلا أن يتجاوب مع الذات أو - في الحقيقة - يخضع لها في مددها الجديد من طاقتها الشخصية ( المدد الشخصي = الاعتماد التام على حركة النفس وتفاعلها مع مايحيط بها بجدية ) ؛ فيُمسح الرسم الذي كان موجودا على السطح
( لاراسخا في العمق ) ؛ وهو مايساوي إزالة سذاجة الحالة الأولى - القشرية - إزالة تامة بناء على ماتم معرفته واكتشافه عن طريق تجربة الذات بتحركها المثابر وحده ( أفكار جديدة تزيح الأفكار القديمة ) :
رجع المطر تاني ينقط
فوق سطوح بيتنا القديم
ومن فتحة كنت فتحتها
عشان أطل هناك وأشوف
اتسرسبت حبة مطر فوق الحيطان
مسحت لي رسمة رسمتها
هناك زمان
مسحت كسوفي م الولاد
مسحت لي ضحكي مع البنات
مسحت لي طيبة قلب مات
وسابت لي خوفي
...................
طيبة القلب الذي مات هاهنا تعني بالضبط إسدال الستار على المشهد الأول
مشهد البراءة المتمثل في التعامل مع العالم الإنساني - بقيمه السلبية المتعددة - بتلقائية ودون وعي كاف ومن ثمَّ حذر واحتياط .
ولو كانت طيبة القلب ماتت ودُفِنت ؛ لما كان لوجود الخوف معنى ؛ لكن
الموت تعبير مجازي عن القلق من حدوثه فعليًّا ؛ ولذا كان وجود الخوف منطقيا إلى أقصى درجة !
وقفت الشاعرة التي مُنِحت فرصة المعرفة بالإنسان عبر اتصالها الحيوي بالواقع - في هذا المقطع الأخير الناطق أو اضطرت أن تقف - موقفا حاسما من الجنس البشري في صورتيه المؤنثة والمذكرة ؛ ففي الوقت الذي امحى خجلها ( الخجل / الارتباك والضعف ) من الأولاد بمعنى بلوغ جرأتها حد التمام في التعامل معهم فالخجل لايحقق الندية التي تحقق بدورها الثقة المطلوبة أمامهم فهم " مش طيبين في كل وقت " انتهت حالة ضحكها ( الضحك / المؤانسة والتبسط ) مع البنات أي قررت معاملتهن بحرص واجب يليق بكراهية بعضهن بعضا " مش كلها بتحب بعض " ؛ ومن ثمَّ خافت ؛ فهي دُفِعت - بحكم قسوة الواقع دفعا - لموقفها هذا الذي لايعكس حقيقة ماتكنه للإنسانية من مشاعر طيبة !
يتغيَّا النَّص غاية تتضح تدريجيا عبر بناء تراكمي سلس ؛ فبتتابع الأسطر - بعد أكثر من قراءة متأنية - تكون الحكمة واضحة ؛ ألا يندفع الإنسان في علاقاته الإنسانية دون رويَّة وتسلُّح بتجربة يحكمها وعي خاص قادر على قراءة مابين الأسطر ؛ لأنه في الأول وفي الآخر يتعامل مع طبيعة ملونة متقلبة ، وألا يكون حالما أيضا ؛ فلطالما انكسر الحالمون ..
إن الارتباط الإنساني ( اتحاد الصورتين ) قيمة عظمى وليس لهوا ولاعبثا بل يجب تنزيهه من اللهو ومن العبث - تطهرا بالعاطفة الناضجة - وتخليصه من القبح ماأمكن ؛ فالعلاقة (الامتزاج) هي المعادل الموضوعي للوجود برمته ولاينبغي أن يكون الوجود مسخا كنتيجة لالتقاء مشوَّهَيْن!!
إننا إزاء نص مكتوب بحرفية عالية في لغة دارجة راقية معبرة من شاعرة متحقِّقة واعية بما تقول كلَّ الوعي .
وتبقى ملاحيظ صغيرة تتعلق بالعروض الشعري الذي لم يكن مستقيما على طول
الخط ؛ فلم تخل القصيدة من هنات عروضية أثرت - أحيانا - على الاستمتاع بالقراءة الصوتية التي عادة مايجريها المتلقي على النصوص المكتوبة ، وأيضا هناك بعض السقطات في طريقة كتابة اللغة الدارجة وقد وضع بعض المعنيين بها كتبا لضبط صياغتها أنصح الشاعرة بالاطلاع عليها ؛ ولعل أبرز الأغلاط بهذا الشأن كلمة " خوفت " التي كتبتها الشاعرة بالواو كما هو مبيَّن وصحيحها " خفت " بضم الخاء لا بإضافة الواو ، ووضع الهمزات أيضا لم توفق فيه الشاعرة دائما ؛ فسطر " ماكنتش أعرفها ساعتها " مثلا يوضح ماأرمي إليه من كون العامية لها خصوصيتها في النطق كما أن للفصحى خصوصيتها " أعرفها " بقراءة السطر من جديد - وفقا لعروض النص - تكون " اعرفها " بدون إظهار الهمزة أو النَّبر كما يسميه اللُّغويون ؛ يعني كأنها همزة وصل لاقطع ، وكذلك سطر " عشان أطل هناك وأشوف " يمكن الإبقاء على همزة الفعل الأول فقط لكن لابد من إزالة همزة الثاني كما يمكن حذف الهمزتين معا ، ..
ولدينا " سابت لي ومسحت لي " ويمكن أن يكتبا " سابتلي ومسحتلي " دون الحاجة للفصل المكاني بين الفعل والجار والمجرور ، وهكذا ..
لاثؤثر هذه الهفوات بحال في حقيقة كون النص جيدا وكون الشاعرة بارعة ؛ وجب أن نقدم إليها الشكر على محاولتها الممتعة - إجمالا - لتوصيل فكرة مهمة . والله من وراء القصد .
عبد الرحيم طايع
قنا في الأربعاء 8/4/2008م
raheem_taya@yahoo.com