مر من عمري الآن أكثر من خمسة و عشرين سنة في محاولات البحث عن وطن يلبي لي ابسط احتياجاتي كمواطن، كانت صدمتي الأولى في سنوات الطفولة حين سألت أمي ذات صباح و أنا أحتسي كوبا من الشاي باللبن "ما هي أكبر دولة في العالم؟" و جاءت اجابتها سريعة دون تردد "أمريكا"، أخذتني الصدمة لحظات فأنا أسألها لتقول لي “مصر” توقعت أن تكون الإجابة “مصر” و ليس “أمريكا”.. التليفزيون الحكومي لدينا (تحديدا القناة الأولى المصرية) كان يبث كل يوم ألاف الأشياء عن مصر و عظمة مصر و روعة مصر حتى اعتقدت أن مصر هي الدولة العظمى المطلقة، لكنني فوجئت أنها "أمريكا" هي الدولة العظمى و أن مصر ليست "أم الدنيا" و لا أي شيء من هذا القبيل! و يوما بعد يوم و بالتجربة الحياتية تأكد لي اكتشافي، و اليوم فقط واتتني الجرأة لأقولها صراحة أن مصر لم تعد تصلح وطن لأي إنسان!
لقد طفح بي الكيل يا وطني الحبيب... أكتشفت اليوم أنك لست وطنا ولا تصلح أن تكون وطنا و لا تصلح حتى أن تكون مجرد مكان عشوائي على كوكب خرافي يصلح لعيش آدميين و كان الأجدر بي أن أتركك و أبحث عن مكان آخر في العالم يمكن أن تُحترم فيه آدميتي، بدلا من استهلاك خمسة و عشرين سنة من عمري في العيش فيك، لكنني آثرت البقاء فيك لأسباب لا أعرفها، ربما لأني ما زلت أحبك... أعشق هوائك الملوث و نيلك الغير نظيف و شمسك الحارقة و أطعمتك المسرطنة! ربما مازلت أريد أن أفتخر بأني حفيدة الفراعنة بناة الأهرامات لاستعيض بذلك عن عدم قدرتي على التباهى بما تصنع يداي! ليس لعجز في قدراتي و لكن لإنعدام الفرص التي تكفلها لي و لغيري من أبنائك و بناتك من شباب اليوم الذين ارتكب أبائهم أكبر جرم حين قرروا إطلاعهم على العالم من خلال الشرفة المصرية!
ربما مازلت أحب النيل لكني أحب أكثر من النيل أن اتناول كوبا من الماء دون أن يجول بخاطري صور الميكروبات و الفيروسات و الأمراض التي تهدد صحتي، أحب أراضيك الخضراء و فلاحيك الكادحين، لكني أحب أكثر أن اتناول بطيخة شهية دون أن أجري اختبارات عدة للتأكد من أنها خالية من أي مادة مسرطنة و أن حياتي لن تتعرض للخطر بفعل الأكل منها! أحب مؤسساتك الصناعية و مشهد العمال في طريقهم إلى العمل كل صباح، ذلك المشهد الأسطوري المتكرر و كأنه اقتباس بديع من روايات تشارلز ديكنز ، لكن الأروع منه أن اتنفس هواء خالي من الرصاص و السحابة السوداء و الاحتباس الحراري و أشكال التلوث الأخرى التي لم يكتشفوها أو ربما لم يفصحوا عنها بعد! أعشق وجه رمسيس الثاني و عينيه، و مازلت أحب مقابر أجدادي الأعزاء خوفو و خفرع و منقرع التي يسميها العالم الإهرامات، أحب تسلقها و أحلم ببلوغ قمتها، لكن رغبتي في بلوغ قمة هرم ماسلو أكبر و أكثر إلحاحا.
لم يصنع ماسلو هرما حجريا من أجل الموتى كما فعل أجدادي و لكنه صنع هرما نفسيا من أجل الأحياء و أسماه هرم الاحتياجات النفسية التي يحتاج كل إنسان لتحقيقها ليكون إنسانا، وضع ماسلو الحاجات الفسيولوجية في قاعدة الهرم و فوقها الحاجة إلى الشعور بالأمان و فوقهما الحاجة إلى تكوين علاقات إجتماعية و فوقهم الحاجة إلى التقدير و الإحترام من الآخرين و أخيرا تنتهي قمة الهرم عند الحاجة إلى تحقيق الذات! يا له من هرم، ربما استحق دخول قائمة عجائب الدنيا السبع بنفس الجدارة التي خرجت بها أهرام خوفو و خفرع و منقرع من القائمة ذاتها هذا العام دون أن نحصل على تفسير مقنع من السيد رئيس المجلس الأعلى للأثار الذي أصبح يطل علينا كل يوم تقريبا باكتشاف أثري جديد ربما في محاولة للاعتذار أو رفع الحرج.
لكن كيف لي أن أصل إلى قمة هرم ماسلو في وطن كذلك الذي أحيا به؟ كيف لي أن احقق حاجاتي الفسيولوجية من مأكل و مشرب و ملبس و مسكن إن كان كل شيء حولي تهبه الطبيعة كالماء و الهواء قد صار ملوثا لدرجة جعلت حياتي في خطر! إن أكلت أو شربت ربما أصاب بمرض يفضي إلى موتي، و إن امتنعت عن الطعام و الشراب و تنفس الهواء سأموت فورا، أصابني ما سمعته عن ثورة العطشانين و إضطرارهم للشرب مباشرة من ماء النيل بالذعر! هل سأضطر يوما للمخاطرة بحياتي مثلهم؟ بصراحة، لا أستبعد ذلك خاصة بعد ما سمعت أن السيد رئيس الجمهورية منشغل كثيرا بموت النباتات و الأشجار في حديقة القصر الرئاسي لدرجة أنه كلف وزير الموارد المائية للقضاء على المياه الجوفية التي تهدد حياة الأشجار. فأنا في بلد حياة النباتات عنده أهم من حياة البني آدمين! و كذلك الأمر بالنسبة لكل شيء حولي لم تهبه الطبيعة – و المفروض أن تهبه لي الدولة بصفتي فرد من أفرادها - مثل الملبس و المسكن الكريميين في ظل التزايد المرعب للأسعار و التي لم يهتز أو "ينزعج" لأجلها كرسي واحد في حكومتنا الموقرة و لن "تنزعج" حتى لو تضاعفت هذه الأسعار عشرات المرات.
كيف لي أن أحقق حاجتي إلى الأمن و الأمان بك يا مصري؟ إن كتبت كلمة أراجعها و انقحها مائة مرة خوفا من أن تحسب علي تشهيرا أو تشويها لسمعة أحد أو ربما إزدراءا للدين، إن خطرت ببالي فكرة أتردد ألف مرة قبل أن اناقشها مع أحد خوفا من أن أجد نفسي بين عشية و ضحاها في سجن من السجون... قاضي من قضاتك – رجل من رجالك المفترض فيهم تطبيق العدالة – قدم دعوة لإغلاق مدونتي (موقعي الشخصي على الإنترنت) ضمن خمسين موقع آخر و أتهمني بإزدراء الأديان بسبب قصيدة كتبتها لأجل صديقي كريم عامر، 22، سنة الذي يقضي عقوبة بالسجن أربع سنوات بسبب مقالات كتبها على مدونته بالإنترنت!! ما أسمعه كل يوم عن الإضطهاد و المحاكم العسكرية التي يتعرض لها الإخوان المسلمون – على الرغم من إختلافي التام معهم و مع ما يدعون إليه – أصابني بالسخط على هؤلاء الذين يمتلكون زمام الأمور فيك يا مصر! و يحضرني هنا قول شاعرك العظيم أحمد فؤاد نجم : “كلمتين يا مصر يمكن يمكن هما آخر كلمتين/ حد ضامن يمشي آمن/ أو مآمن يمشي فين؟"
أين لي تكوين علاقات اجتماعية سليمة في مجتمع مهلهل يكره بعضه البعض و تنادي كل جماعة فيه بسقوط غيرها من الجماعات على أساس الإختلافات الدينية والإنتماءات السياسية بين مسلم هنا و مسيحي هناك و بهائي هنا و ملحد هناك! أو حتي يساري هنا و إخواني هناك! كيف لي أن أشعر بالتقدير و الإحترام في وطن يهان فيه الكبير قبل الصغير، سواء في لجنة مرور أو قسم شرطة أو وسيلة مواصلات أو شركة يديرها رأسمالي فاسد أو عينه زائغة! كيف لي أن أحقق ذاتي في وطن لا يعترف بتكافؤ الفرص و لم يمنحني أنا و أمثالي من الشباب فرصة لإثبات الذات و مساحة للأبداع فيما نعمل، فضلا عن إحباطه لكافة محاولاتنا في تحقيق تلك الذات التي لم نتعرف عليها حتى اليوم!!
إن وصول قمة هرم ماسلو في بلد كمصر هي المستحيل بعينه ، الصعود لقمة هرم خوفو – الهرم الأكبر – أسهل بكثير... يبدو أن طموحاتي و حلمي وسعيي أيضا من أجل خلق مصر مختلفة في المستقبل، مصر قادرة على أن تكفل لمواطنيها الحريات و الحقوق المدنية التي ينعم بها غيرهم في دول أخرى لا يقل بلدنا العزيز عنها عراقة و حضارة – و ليس تحضرا – يبدو أن تلك الطموحات ما هي إلا غايات لا نهائية الإستحالة لن نصل إليها و لا بعد مليون سنة، لأن المنطق يقول أن لا أحد يستطيع بلوغ قمة الهرم بناءا على فشله الذريع في بلوغ قاعدته.
لكن هل نستسلم بهذه البساطة يا مصر؟ أم أن الأمل دائما احتمال قائم مادام في العمر بقية؟